تعد معالجة موضوع الصحراء المغربية في الوثائق المحلية لواحات الجنوب الشرقي المغربي من الدراسات التي لم تنل نصيبها من البحث، و لعل ذلك راجع لأسباب مرتبطة بطبيعة الموضوع من جهة، و بقلة المصادر، إن لم نقل بندرتها من ناحية أخرى، مما يجعل الباحث أمام مشاكل جمة يصعب معها التحليل و التقييم، و لعل هذا الأمر هو الذي يفسر التهميش الذي طال تلك المناطق في الكتابات التاريخية المغربية.

 

فاختيار الحديث عن موضوع الصحراء المغربية من خلال الوثائق المحلية لواحة فم الحصن، لم يكن من قبيل الصدفة، أو بدافع حكم الانتماء للمنطقة، و إن كان هذا العامل الأخير من بين الدوافع و الأسباب المحفزة: بحيث أن الانتماء للمنطقة المستهدفة في الدراسة و البحث يجعل الباحث أكثر إلماما وفهما لمعطيات محيطه، أكثر من غيره، مما يسهل عليه في المحصلة الإطلاع على المصادر التاريخية لمنطقته بكل أصنافها. وفي هذا الصدد فإن ما يجب التذكير به و التأسف عليه في آن ، أنه كان من المفروض أن يحتضن هذا الموضوع من قبل إحدى المواقع الجامعية الوطنية، خاصة و أنه قد سبق تقديمه كمشروع بحث للدكتوراه، تحت عنوان شامل لواحات باني و الفضاء الصحراوي على عهد الدولة العلوية، كدراسة تاريخية من خلال الوثائق المحلية ، خلال الموسم 2013- 2014 لثلاث مواقع جامعية إلا أنه و للأسف الشديد لم تتم الاستجابة للطلب، و هو ما يطرح أكثر من تساؤل لعل أبرزها المتعلق بمستقبل كتابة تاريخ الجنوب المغربي؟.

 

و عموما وقبل معالجة هذا الموضوع يلزم التذكير بمعطيين تاريخين أساسين، يشكلان الأساس البنيوي للموضوع الأول وطني و الثاني محلي:

 

أولا: المعطى الوطني الشمولي

 

إن ما لا يدع مجالا للشك أن قضية الصحراء المغربية تعد من أعقد القضايا السياسية، المثيرة للجدل سواء على الصعيد الوطني أو الإقليمي أو الدولي، بما أثارته من أزمات كان لها تأثيرها الملموس على جميع المستويات، بما فيها السياسية، و الاقتصادية والاجتماعية، و بالتالي فهي من أصعب المراحل التي واجهها المغرب عبر تاريخه الموغل في القدم، و من المعروف أن هذه القضية لم تظهر إلا بعد العهد الاستعماري، و هذا ما يسمح لنا بالقول بأن الاستعمار لم يكن مجرد حادث تاريخي فرضته ظروف اقتصادية و سياسية معينة مرتبطة بالتطور الذي عرفه الغرب في القرن التاسع عشر، بل إن الاستعمار هو صراع حضاري قائم، هدفه تثبيت الزعامة الغربية بتفتيت الدول العريقة، و خاصة العربية باعتبارها المهد الحضاري الأول للإنسانية جمعاء.

 

و هذا الأمر يجد تفسيره في الأعمال الاستعمارية على صعيد البلدان العربية برمتها، بدءا بفصل بلاد السودان عن مصر، ثم تفتيت بلاد الشام و بلاد الحجاز، وصولا إلى المملكة المغربية الشريفة باعتبارها البوابة الأوروبية نحو بلدان إفريقيا الغربية جنوب الصحراء من جهة، و من ناحية أخرى باعتبارها من اعرق الإمبراطوريات بشمال إفريقيا، التي أنطلق منها الفتح الإسلامي الأول نحو أوروبا الجنوبية الغربية، ولعل ما يعرف بوصية الملكة إيزابيلا التي وقعتها عام 1504م،[1] لخير تزكية لهذا الطرح، مما يعني بصريح العبارة أن الدول الامبريالية الغربية لا تريد أن ترى أو تسمع بدولة المغرب الكبير المترامي الأطراف، والذي طالما نادت به الحركة الوطنية كحق تاريخي مغربي مشروع.

 

ثانيا: المعطى المحلي الخاص

 

تعتبر الصحراء وأطرافها خاصة منذ الفتح الإسلامي إلى اليوم، من المجالات التي بصمت تاريخ المغرب عبر مراحله منذ الأزل البعيد، وقد ساهمت واحات باني، باعتبارها منفذا رئيسا للمجال المغربي نحو الصحراء الكبرى، في تجدر الروابط التاريخية والحضارية للمغرب مع العمق الإفريقي، بل و لا زالت مساهماتها في التراث و الحضارة الوطنيين مستمرة إلى يومنا هذا، بالرغم من التهميش الذي تعانيه في البرامج التنموية سواء منها الوطنية أو المحلية، و هو ما يطرح أكثر من تساؤل عن موقع هذه المناطق في المسلسل التنموي للبلاد؟.

 

فالموقع الجغرافي المتميز لهذه الواحات على الأطراف الشمالية للصحراء الكبرى هو الذي جعل منها أحد أهم المنافذ نحو هذا الفضاء الصحراوي. ويشهد على ذلك تجارة القوافل التي كانت واحات باني من أهم محطاتها، كما هو حال مدينة تمدولت بنواحي أقا. وبالإضافة إلى هذه المدينة التجارية التي اشتهرت طيلة العصر الوسيط، يشهد على الأهمية الإستراتجية للمنطقة بعض المواقع المغمورة مثل أكادير نفينكس” قلعة فينكس” بفم الحصن ويطلق عليها محليا بالأمازيغية إسم “أكادير نيوسف” أي “قلعة يوسف” ، وتكمي نكليد “دار السلطان” بتغجيجت وغيرها من المراكز.

 

يتبع…

 

هوامش:

 

[1]- وصية الملكة إيزابيل الكاثوليكية، تم تنفيذها في مدينة ديل كامبو، في 23 نوفمبر 1504.

 

وقَّعت ملكة أسبانيا إيزابيلا في 23 من نوفمبر لعام 1504، أي قبل وفاتها بثلاثة أيام، على ملحق للوصية في مدينة ديل كامبو أمام نفس المُوَثِق، غاسبار دي غريثيو، وخمسة من السبعة شهود الذين كانوا حاضرين في 12 أكتوبر لتوقيع وصيتها الأخيرة. تناولت الملكةُ في الوصية الجوانبَ الرئيسية لحكم الملِكَيْن الكاثوليكيين. أما في ملحق الوصية، فبجانب إعادة التأكيد على ما نصت عليه الوصية نفسها، قامت الملكة بتناول أسئلة تتعلق مباشرةً بحكومة شبه الجزيرة وأظهرت اهتمامها بالسياسة الأسبانية في أمريكا عن طريق وضع أسس لقوانين الإنديز (مجموعة القوانين التي أصدرتها الملكية لحكم الممتلكات الأسبانية في أمريكا والفلبين). وفي البند الأخير من الوصية، أعربت الملكة عن رغبتها في إرسال الوصية والنسخة الأصلية من ملحق الوصية إلى دير سيدة غوادالوبي، في إكستريمادورا بوسط أسبانيا، وهو ما لم يتم تنفيذه. من المعروف أنه في وقتٍ ما في الفترة بين 1543–1545، تم نقل الوصية إلى قلعة سيمانكاس، التي أصبحت الأرشيف الملكي الأسباني بعد ذلك بفترة وجيزة. وقد تمت إضافة ملحق الوصية، الذي فُصِل عن الوصية بشكل غريب، إلى المجموعات الخاصة بالمكتبة الملكية، ليصبح جزءًا من مجلد مُجمَّع، وقد انفصل الملحق عن هذا المجلد في عام 1881. يبدأ ملحق الوصية بِذِكْر موجز للرب ويتم فيه التصديق على ما ذُكِر بالوصية. ويتبع ذلك موضوع ملحق الوصية الذي يحتوي على 17 بندًا وتوقيع الملكة وبقايا لوحة الختم الملكي. وتنتهي الوثيقة ببيان المُوَثِّق وتوقيعات الشهود الخمسة وأختامهم. كان ملحق الوصية مشابهًا في مظهره للوصية نفسها على الأرجح، حيث كان مكتوبًا بخط تقليدي أنيق على مخطوطة رَقِّيّة من ثلاث صحائف مع صحيفة إضافية مُستخدمة كغلاف.

 

– أنظر ما جاء في كتاب: (العلاقات بين البرتغال وقشتالة في زمن الاكتشافات والتوسع الاستعماري) (ص:72) للكاتبة “أنا ماريا طوريس”، ونقلها مترجمة إلى العربية علي الريسوني التطواني في كتاب: (مغرب لا يقهر.. ولكن!) (ص:19):

 

(أوصي وأنصح وآمر بالطاعة النهائية للكنيسة الكاثوليكية، والدفاع عنها دائما وأبدا بكل غال ونفيس من الأموال والأرواح، وآمركم بعدم التردد في التخطيط لتنصير المغرب وإفريقيا، ونشر المسيحية فيهما ضمانا حقيقيا لكل استمرار كاثوليكي في جزيرة إيبيريا الصامدة، ومن أجل ذلك فالخير كل الخير لإسبانيا في أن يكون المغرب مشتتا جاهلا فقيرا مريضا على الدوام والاستمرار)

الحسان القاضي