لم أجد عبارة تليق بالواقع الرهان سوى التي اخترتها عنوانا لهذه الكلمات.

نعم، و كم من شعب عربي شقيق يستحق منا الاعتذار، بداية من الشعب الفلسطيني، مرورا ببقية الشعوب العربية،و قبل النظر في الفاعل، فالمآسي متشابهة حد التطابق أحيانا، قصف و قتل و تدمير و تهجير و حصار و تجويع و فزع و ترويع، و تمزيق جغرافيا أوطان، أليس ظلم ذوي القربى أشد ألما !!! معذرة لإخوتنا في فلسطين و الصومال و في العراق و في ليبيا و في سوريا و في اليمن. لم نملك لمساعدتكم غير كلمات بكماء، لا صوت لها على ما يبدو ليسمعها صانع “الفرار” العربي.

 

لست ممن يؤمنون بالمؤامرة الخارجية، بل أميل كثيرا لتحليل الفيلسوف الجزائري المعاصر مالك بن نبي، حول ظاهرة ” القابلية للاستعمار”، صحيح هناك عامل خارجي يلعب دورا لا يستهان بخطره، لكن كيف له أن يؤثر في الداخل، لولا أن الأخير لديه استعداد قبلي للتفاعل سلبا معه؟ ليس من الإنصاف نفي أحد العاملين، و لكن ليس من المنطق كذلك أن نخلط الترتيب في الأهمية و الخطر؛ ذلك أنه لولا هشاشة الداخل و استعداده القبلي للتأثر سلبا بالعامل الخارجي، لما كان للأخير أي قيمة تذكر أو خطر يحذر، و في أسوء الأحوال تكون قدرة تأثير العامل الخارجي متدنية للغاية.

 

ليس شرطا واجبا، بل يستحيل قطعا أن يكون كل فرد من “الشعب” سياسيا محنكا و خبيرا استراتيجيا متمرسا، و عالما إجتماعيا فذا، و مفكرا باحثا متبحرا، و هل بين بقية شعوب العالم التي تنعم بالاستقرار و الرفاهية و العدل مثل هذا الشرط !؟ على الإطلاق لا. هي شعوب تتكون من أفراد مثلنا تماما، أغلبهم لا تعنيه السياسة و لا يفقه منها مثقال ذرة، منهم الفلاح و الطبيب و المهندس و السبّاك و الخيّاط و غير ذلك من المهن التي تقوم عليها حياة الناس،و كل من هؤلاء يبحر في عالم صنعته؛ الشعب أو الأمة أو أي كتلة بشرية يجتمع أفرادها على عناصر مشتركة، مثلها مثل الجسد الواحد، يحتاج لكثير من الأعضاء التي لا غنى له عنها لحركته، لا يمكن أن نستهين  بقيمة و دور القدم أو اليد أو العين أو الأذن،  لكن من الحماقة و السفه، أن نضع إحداها موضع النخاع الشوكي او المادة الرمادية أو المخ، و من الجهل الأعمى أن نحمّل القدم أو اليد مسؤولية “العقل”. و العقل أو الرأس  لجسد الأمة، هو القيادة و بطانتها، إذا هذه الرأس عطّلت بقدرتها على التحكم في الجسد و أعضائه كل حركته،و أدخلت عليه سموما،و أعدمته الغذاء و شلّت جهاز المناعة فيه، أفنطالب اليد أو الرجل بالانقلاب على الرأس؟ صحيح أن في جسد الأمة دائما خلايا حية تمنع موته في الغالب الأعم، لكن    و بكل أسف هناك مراحل من حياتها، يكون سقف دورها الابقاء على وجودها هي، عاجزة كل العجز  على النهوض بالجسد،و أقصى ما يمكنها فعله هو الإبقاء على الحياة فيها،و التكاثر الى أن تبلغ عددا و قدرة لإمكانية النهضة بالجسد، و بين المحطتين هاتين يمكن للعامل الخارجي أن يستغل وهن الجسد و يستثمر فيه ما شاء، بل يبلغ إمكانية استعباده فعلا.

 

لا أحسبني من خلايا الرأس لأعتذر لجسد الأمة، غير أنني أضع بهذا الخطاب من هم فعلا مسؤولون عنها، قادة و علماء و نخبا أمام واقع خيانة بعضهم و عجز البعض الآخر.

يبدو و بكل مرارة أسجل أني لم أخطئ التقدير في المقال الذي نشر مطلع هذا العام هنا، تحت عنوان “سوريا تضيع من بين أيدينا”؛ لقد سلّم القادة العرب بقرار فردي أحيانا، و أخرى جماعي، مصر عام 1979 للمحور الأمريكي، ثم العراق عام 1990 و الآن ليبيا و سوريا بداية من 2011 و أخيرا و ليس آخرا اليمن؛و اللافت في هذا الواقع المتعفن على مستوى القيادات السياسية و القيادات الفكرية، أن الغالب الأعم منهم يرقص و يزغرد، عند سماعه خبر انهيار دولة عربية، بل و يقيم حفلات استقبال التهاني و الشراب على نخب احتلال هذا البلد العربي أو إعدام حاكمه. مشهد أكثر من هزلي لمأساويته.

 

و أكثر ما يدعو للدهشة و التعجب من حالة الغيبوبة العميقة لدى هذه “النخب” (الحاكمة و المعارضة و جيوش المفكرين)، أن أغلبهم كذلك يدخل في جدال حاد حول الغلبة لمن تكون؟ ألمحور روسيا أم لمحور أمريكا؟ نادرا ما تسمع عقلا يقول: كلاهما منتصر. الأمّة ليست بحاجة لتعلم أيهما منتصر، بل في حاجة لمعرفة من جعلها ساحة حرب؟ من جعلها الخاسر الوحيد بين جميع الأمم؟ و لماذا؟.  ما هي الأدوات التي تنهض بها فعلا و تخرجها من هذا القاع السحيق.

ماذا بعد رقصة الخلاعة عند سقوط بغداد و إعدام صدام حسين؟ و ماذا بعد زغاريد المجون لحظة انهيار ليبيا و إعدام القذافي؟ ماذا بعد؟ اليوم تعوي الضباع من حجورها، مستبشرة بسقوط سوريا و رحيل الأسد، ثم ماذا بعد؟ أواقعا غير واقع العراق؟ ألتقام بعد ذلك مسرحيات اللطم و يكرر القول: لقد سلمت سوريا لايران كما سُلّم العراق؟ أم هناك ابداع لاسطوانة أخرى؟ ألتقام خيم العزاء و يكرر القول: لقد سلمت ليبيا للفوضى؟.

لقد بلغ عهر المتشبهين بالقادة و المفكرين مبلغا من الإسفاف، أزكمت روائحه المنتة أنوف العالم، و اليوم إذ يقف المغرب العربي الكبير حجما، الصغير قيادة، على واقع تشكّل “الشرق الأسود الجديد”، هل ينتبه أهل المغرب بأن القادم عليهم لا محالة صورة طبق الأصل؟.

 

شئنا أم أبينا، الجزائر تعد قلب المغرب العربي،و ليس إلا أعمى البصيرة عديم البصر، من لا يرى بأنها الهدف القادم، لكل المحاور التي تصنع من العالم العربي ساحة حرب و دماء و خراب و نهب ثروات و تشريد و تنكيل بشعوبها.

و السؤال: هل الشعب الجزائري، بأقدامه و أياديه و عيونه و أذانه، و الحال أن الرأس مشلولة  و في حالة موت سريري، على استعداد ليس لجنب الضربة و إنما لمواجهتها و التخفيف من أضرارها؟

لا أملك جوابا قطعيا، لكن لدي تصور عام يقوم على قرائن واقعية، لكن الأهم هنا ليس جواب الكاتب، و إنما جواب الشعب الجزائري لحظة مواجهة الحقيقة، هل ستُدخله بعض خلاياه المتعفنة تحت الاحتلال الجديد الذي يعصف بالعالم العربي مائة عام أخرى؟ أم سيستفيد من دروس الماضي و واقع ما يشاهده اليوم؟ و الحال أن الرأس متعفنة و الخزائن نهبت؟

و أخيرا معذرة لكل الشعوب العربية، و معذرة للقراء فلم نعد صراحة و بكل صدق، نملك ما يستحق القول و الكتابة.

 

اسماعيل القاسمي الحسني