الجزائر مقبلة على انتخابات نيابية ستجري في الرابع من الشهر المقبل. من نافلة القول أن لا شيء يُنتظر من هذا الاقتراع سوى تكريس نظام الحكم بوجوهه الكسيحة وأذرعه المشلولة، وتجديد أعضاء برلمان تحوّل إلى مرتع للغنائم والاستفادة المادية والسياسية.

مما يشد الانتباه في الحملة الانتخابية التي تجري هذه الايام، ذلك الحديث المكرر عن التدخل الخارجي. هذا خطاب مثل الملح، مفيد وضروري لكل الأطباق. حتى «إعلام الممانعة» هناك في لبنان استثمر في هذا الحديث باعتباره يخدم خطه ويبرر خطايا دعمه لديكتاتورية نظام بشار الأسد. قناة فضائية برتقالية اللون تبث من بيروت وتجسّد الطائفية والديكتاتورية في أبشع صورها وجدتها فرصة سانحة لتوغل في حديث المؤامرات الأجنبية التي تستهدف الجزائر باعتبارها «ممانِعة» مثل سوريا! استضافت في إحدى نشراتها الإخبارية صحافيا جزائريا مبتدئا وراحت المذيعة تسأله عن «التدخل الخارجي». لم يفهم المسكين سؤالها كما أرادته، فبدأ يرد بأن الجزائر دولة سيّدة ولن تقبل بأي تدخل في شئونها، والأخرى تحاول تصويب الموقف بالتشديد على أن الخارج يتآمر على الجزائر لإفشال الانتخابات وإسقاطها في أتون الفوضى كما فعل مع سوريا المقاومة!

لكن هل هناك فعلا مؤامرة حيكت أو تحاك ضد الجزائر؟

أؤمن بأن العالم قائم على المؤامرات والدسائس، وأن المؤامرة والتلصص والتجسس ركن أساسي في صلب العلاقات الدولية، ثنائية كانت أم جماعية، تمارسه كل الحكومات والدول وتدّعي جميعها أنها فوق الشبهات. والكل يعرف أن الآخر يعرف. إنها قواعد اللعبة.

لكنني أجد صعوبة في تصديق أن كتلة ما، ولتكن الدول الغربية، تتآمر على دولة على تخومها، مثل الجزائر، للإطاحة بها. قد يصح الحديث عن شراء ثرواتها بأسعار بخسة وعن بيعها سلعا وخدمات «مضروبة»، لكن تحويلها إلى دولة فاشلة، هذا أمر يشبه أحداً يشعل حريقا في العمارة المجاورة وهي متاخمة لعمارته، وقد يكون من صنوف الخيال والاستثمار السياسي محليا في الجزائر والدول التي تشببها.

لم يسأل أحد يوما بجدبة مَن الذي يستهدف الجزائر؟ هل هي دول أم أفراد أم مجموعات؟

ولم يسأل أحد بجدية مَن الذي تهدد الجزائر وجوده ومصالحه حتى يستهدفها ويتآمر عليها؟

ولم يسأل أحد بجدية لماذا تُستهدف الجزائر من الخارج ولم يترك لها حكامها وأبناؤها شيئا تُحسَد عليه؟

من شأن أجوبة موضوعية عن هذه الأسئلة أن تهدئ النقاش وتضعه في إطاره السليم. عدا ذلك سنبقى نلف في دائرة العواطف والإثارة والتوظيف السياسي للموضوع.

الغرب يتعامل بمنطق المصلحة الاقتصادية والتجارية والاستراتيجية. ومصلحته مع جزائر (وغيرها في المنطقة) آمنة ومستقرة أكثر منها مع جزائر منهارة ومشرذمة.

جزائر منهارة ستكون وبالاً على الدول الأوروبية أكثر مما ستكون على نفسها، لأنها ستتحول إلى خزّان هائل من اللاجئين والجيَّاع والمضطَهدين الذين بإمكانهم الوصول إلى سواحل أوروبا سباحة. وستكون مصدراً خطيرا للإرهابيين وعتاة القتلة والانتحاريين، وأوروبا لديها ما يكفي من الخوف والقلق ويزيد من هؤلاء الناس، فلن يكون من الحكمة أن تغامر بفتح عش دبابير جديد.

وستكون سوقا سائبة لترويج أنواع السلاح والمتفجرات وأدوات القتل الأخرى.

حكام أوروبا، الظاهرون والمستترون ممثلون في جماعات المال والمصالح، أذكى من أن يفتحوا على أنفسهم جبهة جديدة تلتهمهم نيرانها. إنهم أذكى من أن يفعلوا ولديهم في الجزائر نظام حكم يقوم بدور الشرطي والحامي وضامن الاستقرار.

هاجس الأمن والاستقرار هذا وبعبع الإرهاب هو ما دفع الحكومات الغربية إلى التخلي عن قيمها الإنسانية الجميلة وتغرق في التعاطي الإيجابي مع أنظمة قمعية وفاشية، عربية وغير عربية، لا سلعة لديها تسوِّقها غير ورقة التخويف من الإرهاب.

كذلك، جزائر مستقرة في حدها الأدنى هي، عند الغرب، مرادف لسوق استهلاكية تشتري كل شيء، من السلاح الأمريكي والروسي إلى الخردة الصينية. تستورد من الغرب السلع الرديئة بأسعار مرتفعة. بل تصبح في بعض الأحيان، بسبب الفساد وغياب أنظمة الرقابة الناجعة، إلى مكب لسلع لا تجرأ الشركات المصنّعة والحكومات الغربية على تسويقها لديها.

لهذه الأسباب وغيرها، وبكل الحسابات، تبدو العواصم الغربية أكثر حرصا على استقرار الجزائر وجيرانها من حكام هذه الدول.

ليس هناك في العواصم الغربية قراءات جادة وعاقلة تميل إلى تقبل وجود ليبيا أخرى على تخوم أوروبا.

لا أحد يتآمر على الجزائر أكثر من أبنائها. ولا يحتاج الغرب لجهد أو مال كي يسيء للجزائر. فلو صرف أعداء الجزائر أموالا طائلة لم يكونوا سيلحقون بها الضرر نفسه الذي ألحقه بها أبناؤها. منظومة الحكم ككل بما فيها من فاشلين ولصوص تبدع في إلحاق الأذى بتلك البلاد وشعبها. وقطاع واسع من الشعب، في رد فعل انتقامي، يتصرف تجاه تلك البلاد وكأنها ملك لقوم آخر ولا تعنيه في شيء.

عندما يكون هذا حال بلد ما، فلا حاجة له بأعداء.

٭بقلم: توفيق رباحي. كاتب صحفي جزائري

عن جريدة “القدس العربي”